وجدان العلي يكتب: الثورة الحائرة بين العصمة والنخبة
Date: 2011-12-29 10:30:01
الثورة الحائرة بين العصمة والنخبة!
الحمد لله ربي وبعد..
فإن الناظر في المشهد السياسي المصري يجد تباينًا لا أفق له في الآراء
والتوجهات والرؤى، ولكنَّ الذي يشغل البصير أن يضع لنفسه القواعد الضابطة
لرؤيته حتى يكون المشهد واضحًا بعيدًا عن أدخنة الهوى، ونيران الحماسة
المتوقدة ليل نهار، أو الأخشاب البعيدة التي آثرتْ أن تضيف إلى برودة
الشتاء برودة القلوب، فلا تنفعل لشيء، ولا تهتم لشيء..إنما هي الحياة
بطولها وعرضها ونومها الطويل وموائدها العريضة!
وهذا بعض نثار الفكر تعليقا على المشهد، وإرشادًا لبعض الأصول الفكرية والخلقية والشرعية أيضا:
خاطب الرب الكريم سبحانه الصفوة المختارةَ من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم خطابا كاشفًا في موضعين، فقال وهم في خوفهم ودمائهم والعصف اللاهب من
تضييق قريش على المقبلين على دين ربهم، عظيمٌ حارق..فقال لهم سبحانه
وتعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق،
ولا يكونوا كالذين من قبلهم فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم
فاسقون.
قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين معاتبة الله لنا إلا خمس سنوات!
خمس سنوات تصرمت على تلك القلوب التي نعلم، وكانوا في المضيق الذي نعلم،
وسط الموت والتعذيب والتضييق والترهيب الذي نعلم..ومع ذلك يخاطبهم هذا
الخطاب الذي يصدع القلب ويأخذ بالنفس كل مأخذ: تحسسوا قلوبكم، وفتشوا في
مخبآت الصدور..
وهنا وقفة كاشفة: لا ينكر متأملٌ أن هنالك نبرةً ساخرة
من التربية والعودة بالقلوب إلى بارئها، وأن الميدان بما فيه من خير وشر
صار معقد الهم والتفكير والشغل الشاغل للنفوس، وهذا ربما يكون شيئا مفروضًا
علينا، غير أن البصير يجمع بين المسارين، ولا يضع العربة قبل الحصان، بل
ينظر إلى ملامح قلبه وقسمات نيته، ويرصد العلاقة التي بينه وبين ربه قيامًا
وسجودًا وتحريرًا للنية، ولهجًا بالذكر، وتخففا من المعاصي، وإقبالا على
الطاعات، لاسيما في شتاء السحل والنار الموقدة بأيدي الطغاة والمجرمين
والمتربصين.
الخطاب الثاني اللافت: بعد محنة الموت، ومحنة الدم النازف
من النبي صلى الله عليه وسلم، والجراحات المتوهجة بالهم والحزن وحرقة
الهزيمة..يقول الرب العظيم للصفوة المختارة من الصدر الأول مرة أخرى: منكم
من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة..!
الحَرفُ الذي بيدي يخذلني في
الإبانة عن جلال هذا المشهد الشاهق المدهش..! الناس في جراحاتهم، وهُم هُم،
ومع ذلك يلفت الرب العظيم أذهانهم إلى أن في الصف خللًا، وأن هناك شقوقًا
لا بد وأن يرممها الربانيون الذي ينصبون وجوههم إلى فاطر السموات والأرض..!
سبحان
الله! أصحاب سيدنا أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فيهم الذي حرص على
المغنم، وأراد الدنيا، وفيهم من كان مرابطًا على ثَغْرِ الآخرة لا يفارق
موقعه..وهم خير الناس قاطبةً، وأطهر الناس قاطبةً، وأجل الناس منزلةً عند
الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فكيف لا يقبل البعض أن هناك
اتهاماتٍ حقيقيةً وتصرفاتٍ تصدم الحس السويَّ والعقلَ المجرد، والدين
القويم، والخلق المستقيم لمن انتمى إلى الثورة؟!..وكأنه صار مطلوبًا منا
جميعا أن نردد: (لعل الله اطلع إلى أهل التحرير فقال اذهبوا قد غفرت لكم)!
وإنْ سبَّ بعضهم الدين، وإن احتقر الشريعة، وإن مارس السحل الفكري للصف
الإسلامي رموزًا وحركات..فهو ثوري كان معاديًا لمبارك، محاربًا للنظام، فلا
مساس ولا انتقاد ولا اعتراض، عليك بالتسليم الخاشع المخبت الأواه!..
إن الاعتراض على ظلم الظالم شيء رائع، لكنه لن يعطي صاحبه صَكَّ البراءة من
النقد، بل و"العداء" إن خالف الملة وسَبَّ الربَّ واعتدى على الشريعة..!
لن يعطيه صكَّ البراءة وإن حارب الأخلاق، ومسخَ الهُوُيَّة، وحرق المنشآت، ولَوَّح بالبذاءات إشارةً وقولًا وفعلًا..
لن يعطيه صكَّ البراءة إن وجدناه مائلًا إلى غربيٍّ يعادي أمتنا، ولن يخلع
عنه عباءةَ التهمة إن صار بعد شَظَف العيش، وقلة ذات اليد، إلى " سوبر
ستار" من ذوي اليسار والثراء والرفعة الفارهة!
إن التحرير هو قلب مصر
الذي أبى الظلم وخلع الطغيان، واصطفت خفقاتُه البشرية على هدف واحد ورؤية
واحدة، من أجل أن تكسر مصر قيد الاستبداد، وأن تنهض من تبعيتها الذليلة،
إلى مركزها الراشد في قيادة المنطقة وصناعة التاريخ..
وليس لكي تنتقل
من طغيان الفرد إلى طغيان "النخبة" التي تمارس في كل يوم شعائر الكفر
بالديمقراطية، واحتقار الشعب الذي اختار غيرهم، ولم يكن يومًا يظن أنهم
أرادوا خلع مبارك ليجلسوا هم مكانه..
وأنا أرى أن مبارك لم يَزُل، وأن
المجلس العسكري هو المثال الحي لفلسفة مبارك في الحكم بطريقة أخرى، فلم
العَجَلة لقَطْف الثمرة، والهدفُ الذي أردناه لم نحققه بعد؟!
هذه نظرة عابرة..فخذ ودع، وانظر وتأمل، وارفض واقبل..أنت في كل أحايينك مُرَحَّبٌ بك.
وجدان
صبيحة الخميس الأخير في عام 2011