فتوحات السند في عهد معاوية
تمكن المسلمون في عهد معاوية رضي الله عنه من بسط نفوذهم
إلى ما وراء نهر السند، ففي سنة 44هـ غزا المهلب بن أبي
صفرة ثغر السند فأتى بَنَّة، ولاهور، وهما بين المًلتان، وكابل،
وأما في مستهل سنة 45هـ فقد أرسل والي البصرة عبد الله بن
عامر: عبد الله بن سوّار العبيدي إلى ثغر السند على رأس حملة
قوامها أربعة آلاف رجل، ولم وصل ابن سوّار إلى مدينة مكران،
بقي هناك أربعة أشهر يعدّ نفسه وجنده للحملة المرتقبة. ثم تقدم
وجماعته نحو بلاد القيقان، وفتحها، وكانت هديته إلى معاوية
رضي الله عنه خيلاً قيقانية سلّمها بنفسه إليه في الشام، فأصل
البرازين القيقانية من نسل تلك الخيول. وعلى أية حال، فلم يدم
المقام لابن سوّار طويلاً في ثغر السند فقد قتلته جماعة من الترك
هناك في سنة 47هـ ، وفي سنة 48هـ اختار زياد بن أبي سفيان
سنان بن سلمة بن المُحَبَّق الهذلي ليكون والياً على الاقاليم
المفتوحة من ثغر السند وما أن وصل سنان إلى هناك حتى تمكن
من فتح مدينة مكران ((عنوّة)) ومصَّرها وأقام بها وضبط
البلادولكن سنان لم يمكث هناك سوى سنة أو سنتان ثم عزله
زياد. وولى مكانه راشد بن عمرو الأزدي، فأتى مكران ثم تقدم في
بلاد القيقان، فظفر، ثم اتجه نحو الميد، فقتل هناك، وبعد ذلك
تولَّى عباد بن زياد بن أبي سفيان أمر سجستان فقاد حملة توغل
فيها في منطقة حوض نهر السند فنزل كِشْ، ثم سار إلى قُنْدُهار:
فقاتل أهلها
فهزمهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين، وكان آخر
الولاة الذين تولوا أمر الفتوحات في هذا الجزء هو المنذر بن
الجارود العبدي أبو الأشعث والذي وصل ثغر السند معيناً عليه
من قبل عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والي البصرة سنة 62هـ
فقاد المنذر حملة ضد مدينة قُصدار، وتمكن من فتحها.
استشهاد صلة بن أشيم وابنه بسجستان عام 62هـ
صلة بن أشيم هو الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء العدويُّ
البصري، زوج العالمة معاذة العدوية، وكان صلة له مواقف في
المجتمع الإسلامي مؤثرة ومن هذه المواقف، عن ثابت قال: جاء
رجل إلى صلة بنعي أخيه، فقال له: أدن فكل، فقد نُعي إليَّ أخي
منذ حين، قال تعالى: ((إنك ميت وإنهم ميتون)) (الزمر ، الآية : 30)،
وكان صلة له كرامات منها، عن حمّاد بن جعفر بن زياد أنّ
أباه أخبره، قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة،
فنزلوا فقلت: لأَرمُقَنَّ عمله، فصلَّى ثم اضطجع، فالتمس غفلة
الناس، ثم وثب، فدخل غَيْضَةً، فدخلتُ فتوضَّأ وصلّى، ثم جاء
أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة، أفتراه التفت إليه حتى سجد؟
فقلت: الآن يفترسه فلا شيء، فجلس ثم سلَّم فقال: يا سبع اطلب
الرِّزق بمكان آخر، فولىّ وإن له زئيراً أقول: تصدّع منه الجبل
فلمّا كان الصبح فجلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم
قال: اللَّهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أو مثلي يَجتَرِئُ أن
يسألك الجنَّة، وعن العلاء بن هلال، أن رجلاً قال لصلة: يا ابا
الصهباء رأيت أني أعطيت شهدة، وأعطيت شهدتين فقال:
تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد، لقيتهم الترك
بسجستان، فانهزموا. وقال صلة: يا بُنيَّ ارجع إلى أمك. قال: يا
أَبَة، تريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال: فتقدَّمْ، فتقدَّم،
فقاتل حتى أصيب، فرمى صلةُ عن جسده، وكان رامياً، حتى
تفرَّقوا عنه، وأقبل حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قُتل،
وعن حمّاد بن سلمة: أخبرنا ثابت أنّ صلة كان في الغزو، ومع
ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى احتسبك، فحمل، فقاتل، حتى
قُتل، ثم تقدَّم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت:
مرحباً إن كنتنّ جئتنَّ لتُهنَّئنني، وإن كنتنَّ جئتُنَّ لغير ذلك
فارجعنَّ.
أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين
... كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في
نفوس المجاهدين، فقد بين المولى عز وجل أن حركات
المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ
مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا
إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة ،
الآيتان : 120 ـ 121) .
... وقد تلعموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية
الحاج فيه قال تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ
وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (التوبة ، الآيات : 19 ـ 22) .
واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: ((قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ
اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ))
( التوبة ، الآية : 52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي
قال تعالى: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) (آل عمران ، الآيات : 169 ـ 171)، وكانوا
يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: ((فَلْيُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)) (النساء ،
الآيات : 74 ـ 76). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم
للمسلمين فضل الجهاد فألهبت أحاديثه مشاعرهم وعواطفهم
وفجرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد بنفسه وماله،
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين فقال:
إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين
الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه
الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة. وقد وضح صلى الله
عليه وسلم فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج
في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما
نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي
ما قعدت خلف سرّية ولوددت أني اقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم
اقتل ثم أحيا ثم أقتل وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل
الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا
الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من
الكرامة. وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن
سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث، فكان كبار الصحابة
رضي الله عنهم يغزون وقد تقدم بهم العمر فيشفق عليهم الناس
وينصحونهم بالقعود عن الغزو، لأنهم معذورون فيجيبونهم أن
سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق
إذا ما تخلفوا عن الغزو. كما كان للعلماء والفقهاء والزهاد دور
كبير في تربية الناس على هذه الآيات والأحاديث ومن هؤلاء
العلماء كبار الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وابن عمر، وغيرهم
ومن التابعين كأبي مسلم الخولاني، يرون أن الجهاد في سبيل الله
ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية، فقاموا بهذه الفريضة
في فتوحات بلاد الشام والشمال الأفريقي وخراسان وسجستان
والسند، وترتب على قيامهم بهذه الفريضة ثمرات كثيرة ..
كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه أكبر
معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله
عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف
المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا
أن تداركتها رحمة الله ـ سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع
معاوية رضي الله عنهما وقد امتلأت المصادر بالنصوص التي
تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهادومن هذه الآثار:
ـ ... عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد
إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد
طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام وقطعت
السبل، وعُطلت الفروج ـ يعني الثغور.
ـ ... ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده قال: لما قتل عثمان،
واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة حتى اجتمعت
الأمة على معاوية.
قول أبي بكر المالكي: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضي الله
عنه، وولى بعده علي رضي الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها
إلى ولاية معاوية رضي الله عنه، ولكن بعد الصلح وما ترتب
عليه من الاتحاد والاجتماع عادت حركة الفتوحات إلى ما كانت
عليه وأصبحت في عهد معاوية على ثلاث جبهات كما مر معنا .
إن الاتحاد والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله مقصد من
مقاصد الشريعة وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله
واستمرار حركة الفتوحات، فالأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب
المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة
مهمة جداً في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع
ربهم فحركة الفتوحات بين الانطلاق والتوقف مرهون بتحقيق
سنة الاتفاق والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق
قال تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعا.. ))